قصة جوجل .. من التوهج إلى الأفُول

في المقر الرئيس لشركة جوجل الذي يُطلق عليه Googleplex ثمة شيء لا يمكن أن تخطئه عين. فهناك مبان حديثة فارهة يعمل فيها مبرمجون ماهرون، وعلماء حواسيب مدهشون، وهناك - وهو المهم - ثقافة يتبناها الجميع، قوامها اللهاث وراء الأفكار الإبداعية واصطيادها ومن ثم تحويلها إلى منتج تقني يكرس المكانة العالمية المرموقة التي تحتلها جوجل اليوم. تقف جوجل بعد أكثر من عقد من الزمن على انطلاقها كواحدة من العلامات الفارقة في تاريخ شبكة الإنترنت التي ستبقى تغرد بعيداً في سماء المعلوماتية. إلا أن السؤال الذي يطل برأسه بين فينة وأخرى هو: هل تستطيع ''جوجل'' المحافظة على تلك المكانة التي حازتها أم أن شمسها قد آذنت بالأفول؟

يعرض ديفيد فايس David Vise في كتابه الماتع ''قصة جوجل'' The Google Story فصولاً من الظروف التي أحاطت بولادة واحدةً من أشهر شركات التقنية التي بسطت - ولا تزال - هيمنتها على الفضاء الجيومعلوماتي العالمي. إنها قصة بزوغ اختلط فيها الواقع بالخيال، وتداخل فيها المعقول باللا معقول حتى غدت قصة ولادة جوجل والظروف المحيطة بها محرضاً ومحفزاً للعقول الإبداعية الصغيرة لخوض غمار تجارب جديدة. تبدأ فصول تلك القصة مع ذلك اللقاء الذي جمع سيرجي برن Sergey Brin مع لاري بيج Larry Page عندما كانا يدرسان في مرحلة الدكتوراه في جامعة ستانفورد الأمريكية العريقة وذلك في أواسط عقد التسعينيات من القرن الماضي. جمعهما اهتمام عميق بابتكار آلية تنظم وتبحث في محتوى الإنترنت الذي أخذ في التضاعف باطراد مستمر. التمعت في ذهن لاري فكرة مدهشة : إنزال محتوى الإنترنت كاملاً على جهازه الحاسوبي ومن ثم البدء الفوري في إعمال آلية رياضية لجلب تلك الصفحات للمستخدمين حال طلبها. كان لاري متفائلاً بأن عملية إنزال محتوى الإنترنت على جهاز حاسوبه الشخصي لن تستغرق أكثر من أسبوع، التفاؤل الذي اكتشف أنه مبالغ فيه حين عمل لمدة عام كامل ولم يستطع - بمساعدة سيرجي - إلا إنزال 5 في المائة فقط من ذلك المحتوى. ولكن - وهذا هو الأهم في الأمر - فإن الشابين استطاعا إماطة اللثام عن آلية لوغاريتمية دقيقة لنبش محتوى الإنترنت بسرعة فائقة وجلب نتائج ذات مصداقية للمتصفح.

أدرك كل من سيرجي وبرن أنهما على أعتاب عصر معلوماتي جديد، وأن ذلك يتطلب مورداً مالياً ضخماً وقيادة إدارية ماهرة، وذلك لن يتأتى إلا عبر إنشاء شركة للإشراف على كل ذلك. ولكن كيف لأباطرة المال أن يضخوا بعضاً من رؤوس أموالهم في مشروع تجاري لا يزال يخطو خطواته الأولى في غرفة صغيره ملحقة بسكن الطلاب الجامعي في جامعة ستانفورد؟ وكيف لمثل هذا الاستثمار أن يحقق النجاح في ذلك الوقت - نهاية التسعينيات - بينما أسهم عديد من شركات التقنية مثل ياهو ومايكروسوفت تتهاوى في سوق البورصة فيما بات يُعرف اليوم بفقاعة الإنترنت؟

للتغلب على معضلة التمويل أخذ سيرجي وبرن في زيارة عديد من المستثمرين في مسعى لاستمالتهم لضخ أموال في الشركة الجديدة. يعترفان في البدء أن عديدا من هؤلاء المستثمرين فضل عدم المجازفة والركون -بدلاً عن ذلك - إلى استثمارات تقليدية في قطاعات آمنة. وحده آندي بوكتولشيم Andy Bechtolshteim وهو واحد ممن المؤسسين لشركة صن Sun للرقائق الإلكترونية تحمس للمشاركة في مشروع الشركة الوليدة وقرر تحرير شيك بمبلغ 100 ألف دولار لمشروع شركة لا تزال حتى ذلك الوقت دون اسم تجاري.

أراد سيرجي برن ولاري بيج الدخول في عالم الشركات عبر اسم تجاري يعكس طبيعة العمل الشاق لأي ''مكنة بحث'' وما يتطلبه ذلك من دك حصون اللغة عبر وسائل وطرق لوغارتمية رياضية بالغة التعقيد. استقرا على إطلاق اسم غوغول Googol ويعني في اللغة الإنجليزية الرقم عشرة مرفوعاً للقوة مائة أي رقم واحد متبوعاً بـ 100 صفر. لكنهما أخطآ - على ما يبدو - في كتابة الاسم الصحيح، ليظهر لنا Google اسماً لامعاً وجديداً لظاهرة مبهرة في عالم التقنية.

حققت الشركة نجاحاً لافتاً في بضعة أعوام استطاعت من خلالها اكتساح المشهد المعلوماتي العالمي. تمكنت جوجل من حصد شهرة لا تُضاهى بعد تخطيها جميع العوائق اللغوية والجغرافية والتقنية التي تعترض طريق أي شركة تقنية عمل على الصعيد العالمي. توسعت أيضاً أنشطة الشركة، فبدلاً من الركون إلى دور ''محرك البحث'' سارعت بالتمدد عبر طرح حزمة من الخدمات الأخرى التي لاقت رواجاً منقطع النظير بين شرائح لاهثة من المستخدمين.

ركزت ''جوجل'' أنشطتها على شق البرمجيات software وأغفلت إلى حد بعيد صناعة العتاد hardware. يبدو أن ''جوجل'' تدفع الثمن غالياً جراء تلك السياسة، فهذه شركات العتاد العالمية مثل آبل تستعيد بعضاً من بريقها الذي أفل وتقوم بطرح هواتفها الذكية. فبعد إعصار الآي فون في عام 2007م والذي لم يهدأ إلى الآن، هذه شركة آبل Apple تعود من جديد فتقفز إلى واجهات الإعلام عبر طرحها لجهاز الحاسب الذكي ''الآي باد'' iPad. كل ذلك يحدث بينما تنهمك جوجل في معمعة استحواذات متواضعة لشركات ناشئة start-ups كتلك التي أُعلنت قبل يومين (2 مايو) والمتعلقة بصفقة آلت بموجبها شركة Bumb Technologies إلى ''جوجل''. حاولت ''جوجل'' الدخول إلى عالم الشبكات الاجتماعية لمزاحمة فيس بوك facebook وتويتر twitter ولكنها حصدت فشلاً ذريعاً. الأنكى من كل ذلك هو إصرارها على المضي قدماً في مشاريع فاشلة كتلك المتعلقة بمشروع أرشفة الكتب وتحويلها إلى الصيغة الرقمية، الأمر الذي يتطلب جهداً تقنياً ونزيفاً مالياً. وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال عن أفول نجم جوجل، إلا جميع المعطيات تدل على أنها لا تزال تتربع على عرش الفضاء المعلوماتي العالمي، بل إن إزاحتها عن تلك المكانة التي حازتها يبدو في غاية الصعوبة رغم المنافسة الشرسة التي تحتدم بين الكيانات اللاعبة في عالم الإنترنت والتقنية. إلا أننا لا نستطيع التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المستقبل، والذي ربما يشهد ميلاد شركات عملاقة تمازج بين صناعة البرمجيات الرقيقة software وتلك الخاصة بالعتاد hardware وبالتالي فإن مكانة جوجل كشركة عالمية رائدة ستتأثر لا محالة.